"حكاية الأسرى الفلسطينيين المحررين في القاهرة"
في السردية الفلسطينية، الحرية ليست هبة تُمنح، بل ثمن باهظ يُنتزع من بين أنياب الاحتلال والسياسة. ومع كل صفقة تبادل، يرتفع السؤال القديم بمرارة ما الثمن الحقيقي؟ ليس الثمن رقمًا في المفاوضات، بل أعمارًا مُستبدلة وحيواتٍ مؤجلة. فإسرائيل، إذ تمنح الحرية بيد، تُمسك بسلاسل المنفى القسري باليد الأخرى، ليقبل الفلسطيني الصفقة لا استسلامًا، بل إدراكًا بأن جزءًا من الحرية أفضل من الموت الكامل خلف القضبان.
في مدينة القاهرة، بين زحامها وعبق أحيائها العريقة التي تحفظ أنفاس الغربة، وصل رجال تحرروا من سجونٍ ضيّقة ليجدوا أنفسهم في سجنٍ أوسع اسمه "المنفى". إنهم الأسرى المحررون الذين خرجوا في دفعات متفرقة.
هؤلاء الرجال، الذين تعرف وجوههم معنى القيد وذاكرتهم مشبعة برائحة الزنازين، يحملون في أعينهم ضوءًا لا يطفأ بسهولة، كأن الحرية تسكنهم أكثر مما يعيشونها. أفرج عنهم الاحتلال، لكنه لم يفرج عن حقهم الأصيل في العودة، فكان مصيرهم الإبعاد القسري والحياة المنفية.
وجدوا في القاهرة حضنًا عربيًا آمنًا وسماءً لا تعاقبهم على انتمائهم، ولكن الوطن ظلّ خلف الأسلاك، يلوّح لهم من بعيد. يعيشون بين دفء النيل وحنين الأرض الغائبة، يدفعون الثمن بصمت نبيل، كأنهم حراس لذاكرة لم تُغلق بعد.
الإقامة هنا ليست لجوءًا رسميًا ولا حرية كاملة، بل حياة معلّقة بين الماضي الذي لا يعود والمستقبل المجهول. لقد خرجوا من الأسر كي يعودوا إلى الحياة، لكنهم وجدوا الحياة مؤجلة. المنفى له ملامح مزدوجة دفء في النهار، ووحشة في الليل. يصعد سؤالٌ مؤرق: هل يمكن أن يعيش الإنسان حرًا إذا فُقدت الجغرافيا من حوله؟
مصر، بدورها، احتضنتهم بصمتٍ كريم، حافظت على كرامتهم ووفرت لهم الأمان، مدركة أن بعض الملفات لا تُغلق بالتصريحات بل تُصان بالسكوت الشريف. استقبلتهم كأمّ تعرف أبناء الغربة، منحتهم الأمان دون ضجيج، وفهموا أن الكرم أحيانًا صامت وأن السياسة تمشي على رؤوس الإبر.
في القاهرة، يعيشون و يكتبون فصلاً جديدًا من حكاية الحرية الفلسطينية، التي تبدأ بالأسر ولا تنتهي حتى في المنفى. كل صفقة تحمل رقمًا وعددًا، لكن خلف كل رقم وجه واسم وذكرى. تجاوزوا أسوار السجن، لكنهم لم يتجاوزوا حدود الوطن. فكلما تنفّسوا الحرية، تذكروا أن الحرية بلا أرض تُشبه النافذة المفتوحة على جدار.
هم لا يجيبون بالكلام، بل بالبقاء. يعيشون كما لو أن انتظار العودة شكل آخر من المقاومة، وكأن أرواحهم تُقيم في فلسطين بينما أجسادهم تستظل بحدود أمهم مصر. فـالحرية الفلسطينية ليست لحظة فتح باب، بل مسيرة طويلة من الفداء المتكرر. والثمن مهما تبدّل يبقى واحدًا أن تكون حيًا، لكن خارج أرضك؛ أو تبقى سجينًا، لكن داخلها.
هكذا تفعل فلسطين بأبنائها تمنحهم المجد على هيئة اختبار، وتترك لهم حرية باهظة لا يقدر عليها إلا من تعلّم أن الحرية نفسها، في هذه البلاد، تُولد مقيدة. لقد تحرروا من قيد الأسر ليقعوا في قيد المنفى، وخرجوا من سجون حجرية ليدخلوا في سجن من غياب الوطن. في صمتهم شيء من الشعر، وفي غربتهم معنى الوطن المؤجل.
------------------------
بقلم: حاتم نظمي